جامعة الدول العربية المؤتمر الثقافي الأول لبنان 1947
نقدم لكم هذا الموضوع حول المؤتمر العربي الثقافي الاول عام 1947 في هذا العدد من مجلة القافلة وفي مثل هذا الوقت عام 1947 عُقد المؤتمر الثقافي العربي الأول، وكتب الدكتور اسحق موسى الحسيني هذه المقالة أحرص على مشاهدتكم لها، ولكي تكون موضع مقارنة بين الحال الثقافي العربي في الماضي والحال الثقافي العربي في الحاضر.
حدود ضيقة: من حسن حظ المؤتمر ان القائمين على أمره ضيقوا حدوده، ولم يسايروا مفهوم كلمة "الثقافة" إلى الحد العلمي او الاصطلاحي. اذ لو فعلوا ذلك لكانت البداية شاقة عسيرة. ولذا فقد حصر المؤتمر ابحاثه في موضوعين رئيسيين هما موضوع اللغة، والعلوم الاجتماعية بمفهومها الضيق أيضاً. وشطر الموضوع الاول إلى قواعد اللغة وآدابها. وشطر الموضوع الثاني إلى التاريخ والجغرافية والتربية والوطنية. وكان القصد من ذلك ان يكون المؤتمر درجة أولى في سلم الثقافة الطويل، وان يبدأ بالموضوعات التي تؤثر في انشاء روح الجماعة وتوجيهها.
وآمال واسعة: على ان الامال والأماني تعدت تلك الحدود الشيقة. فوحدة العرب الثقافية كانت أمنية يتردد صداها في كل صدر. ولك يكد المؤتمر يختتم جلساته حتى وقف "الثقافي الأول" على حد تعبير احدى الزميلات اللبنانيات – الأستاذ الجليل احمد امين بك واعلن انه تقرر مبدئياً ان يعقد المؤتمر الثاني في شهر سبتمبر المقبل في مدينة الاسكندرية. وكانت كلمة الأستاذ تقصد إلى تطمين المؤتمرين ان آمالهم الواسعة لا بد من ان يحققها الزمن بالتدريج إلى ان تكتمل. اتزان وحكمة: والحق ان الاتزان بمعناه الدقيق كان يسيطر على المؤتمر وقراراته واجتماعاته. وكان الرؤساء الذين يتعاقبون الرئاسة يبدون حكمة متناهية في تنسيق الآراء، ودفع مواطن الاختلاف، والسمو على الاعتبارات المحلية والطائفية وما إلى ذلك مما لا يمت إلى المؤتمر بصلة. وفي احدى الجلسات العامة قدم احدى الأعضاء اقتراحاً بفصل الدين عن الدولة، فرد عليه عضو بكلمة متزنة. ثم انبرى آخر ليرد فمنعه الرئيس من الكلام، مع صداقته له، بحزم أثار الاعجاب. وهكذا انتهت العاصفة وانتهى الاقتراح.
مجالس طريفة: وكانت جلسات اللجان المختلفة مفعمة بالطرائف. فالاعضاء يمثلون "مدارس" مختلفة، منها المحافظة والمتطرفة والمعتدلة. واذكر على سبيل المثال ان الأستاذ الشيخ محمد بهجت الأثري اقترح ان تلغى قواعد الهمزة كلية وان يستعاض عنها بقاعدة واحدة هي ان تكتب الهمزة حيثما ترد –عدا اول الكلمة- منفصلة عما قبلها وعما بعدها كما تكتب العين مثلاً. فهبّ الأستاذ الشيخ ابراعيم المنذر معارضاً. وكادت تهب عاصفة بين المحافظين والمتطرفين. واخيراً انتهى الاقتراح بقبول صاحبه ان يقدمه كتابة إلى لجنة الثقافة في الجامعة لدرسه وتمحيصه. وكانت للدين حرمة ذات وقار وسماحة. وكان رجال الدين يتساجلون بلطف وكياسة ورائدهم جميعاً وحدة الكلمة وخير الوطن. والسيدات أيضاً: وكان عدد السيدات كبيراً جداً. وكن يتولين تسجيل الجلسات وجمع المقترحات ومساعدة رجال المؤتمر بنشاط ورشاقة ملحوظين وكانت اخواتنا السوريات واللبنانيات يؤلفن الفوج الأكبر. وحدث ان وقع مجلس هذا العاجز في احدى المآدب في وسط حلقة محكمة من السيدات. وتلفت يميناً ويساراً فلم يجد رجلاً واحداً يخاطبه ولو على بعد خمسة أمتار. ولكن سيدة فاضلة بادرت الة تقديمه إلى السيدات جميعاً. فدارت احاديث ممتعة لن تنسى، ود صاحبنا اذا ما انفّضت احدوثة لو تعاد كما قال الشاعر: من الخفرات الغر ود جليسها اذا ما انفضت احدوثة لو تعيدها. وكانت تمثل سيدات العراق آنسة فاضلة على جانب عظيم من الذكاء والظرف وقد جمعت طائفة من التواقيع لم تظفر بمثلها غيرها.
تمهيد الصحافة: وكان الاعضاء يمثلون بلاداً متباعدة. من أقصى العراق إلى اقصى المغرب. ولذا كانت الفائدة الاجتماعية لا تقل اهمية عن الفائدة الثقافية. وسعدت مرة بلقاء شاب فاضل من دير الزور. وما كدنا نتبادل الاسماء حتى قال لقد رأيتك في " القافلة" مراراً.. فقلت: او تقرأها؟ فقال انني اقرأها بانتظام. فقلت في نفسي: لئن كانت الثقافة توحد قالصحافة تمهد. وها قد تعارف عربيان مع بعد الشقة. والحق ان الطباعة. بما تشتمل عليه من كتب ومجلات وجرائد ونشرات من ابرز العناصر التي ادت إلى هذا التطور الحميد في وحدة العرب وتفاهمهم وتآزرهم. الصحافة الفلسطينية: وكان بودي ان اترك الصحافة العربية الفلسطينية إلى غيري من اخواننا المطلعين على الصحافة العربية. ولكن مجرى الحديث يسوقني إلى ان اذكر جهود اولئك الذين انشأوا صحفنا بكلمة خير هي أقل ما يقال. انهم وضعوها في المرتبة الثانية بعد كبريات الصحف المصرية. وقد رأيت في الصحافة اللبنانية تطوراً حسناً وخاصة في قسم التصوير والاحاديث المنقولة. وعدد المصورين التابعين للصحف والمستقلين عنها كبير. ولا يقع حادث حتى يهرع اليه المصورون ويسجلونه. وقد اخذوا للمؤتمر عشرات الصور، فنشرت الصحف بعضها واشترى الاعضاء بعضها الآخر.
المؤتمر في إهدن: وقد اقيمت لأعضاء المؤتمر حفلات كثيرة في مصايف الجبل. ولكن اروع حفلة شهدتها كانت في "إهدن" ذلك المصبف النائي في الشمال. فقد خرج سكانه يهزجون ويهتفون ويزغردون في حماسة منقطعة النظير. وكان طعام المائدة من صنع ربات البيوت، هن يعددنه كأن المؤتمر في بيت رجل واحد من سكان البلدة. أليس اجتماع بلدة في بيت وامة في بلدة وأقطار في قطر منظراً فاتناً؟ بلى، انه لكذلك ومن حسن الحظ ان دعوة إهدن كانت في آخر ايام المؤتمر، فتفاءل بها القوم بقدر ما ابتهجوا.
القرارات: واتخذ المؤتمر طائفة من القرارات في جو مفعم بروح التآخي والتفاهم والاستبشار. وكانت جميعها تقصد إلى تحقيق الاهداف التي وضعها المؤتمر نصب عينيه. ولم يكن هناك طغيان في التوجيه او اسراف في العواطف او غلو في الاماني. وكانت للروح العلمية مكانة ملحوظة. فلم تخل قرارات لجنة من الحث على الاخذ بالاساليب الحديثة في التربية والتعليم وعلى تيسير الموضوعات تيسيراً يلائم روح العصر. وعلى الجملة كان المؤتمر يعيش في جو لا يقل اتزاناً وسلامة تفكير وحسن تنظيم واتساع افق عما نعهد في الاجواء العربية. وقد كان الكثيرون يتساءلو قبل انعقاد المؤتمر: ترى أيمكن ان يخرج المؤتمر بنتائج معقولة؟ وهل من الممكن التوفيق بين مختلف الآراء؟ والمنصف لا يسعه الا ان يجيب بان المؤتمر نحج نجاحاً عظيماً. ومن هنا ترى بعد النظر في قصر ابحاثه على الموضوعات الاجتماعية واللغوية، على ان يتسع المجال بالتدريج في المؤتمرات المقبلة ان شاء الله.