القدس من أقدم مدن العالم، كما أنها من المدن النادرة التي استمرت تشغل موقعا مركزيا مهما منذ نشوئها حتى اليوم لمن كان يعيش فيها وللمناطق المحيطة بها.
يقول الأستاذ/ عارف العارف في كتابه المفصل في تاريخ القدس:"يعتقد قوندر، وكوانت، وكليرمان غالو وغيرهم من الكتاب والمؤرخين أن سكان القرى القائمة حول مدينة القدس وفي يومنا هذا هم من بقايا الكنعانين القدماء."
سكن اليبوسيون بعد الأموريين المدينة في بداية القرن الرابع عشر قبل الميلاد تقريبا وكلاهما من أصل كنعاني والآثار الموجودة في تلك القرى تثبت ذلك ومهما حاول المزيفون والمدعون لم ينجح احد بعد في كشف أو إثبات أي ادعاء حتى ولو بقطعة فخار، لذلك أهمل التنقيب خوفا من نتائجه المخيبة للآمال.
يشير ابن خلدون إلى أن بعض المدن يمكن لها البقاء بعد زوال الدولة إن توقر لها ريف يمدها بالسكان ويحافظ على وجودها ، وهذا يدل ألا غنى للمدينة عن ريفها ومحيطها ولا غنى للريف عن المدينة، وللقدس عدد كبير من القرى يتبعها.
لما بسط صلاح الدين سلطانه على فلسطين ووطد حكمه اسكن القبائل العربية التي شاركته الحرب في مدينة القدس وجوارها، وعهد لهم بحراسة الأماكن المقدسة والسهر على حماية البلاد.
ودام هذا الحال حتى جاء الملك الظاهر بيبرس وسحق الصليبيين ، فأقطع البلاد إلى مشايخ القبائل ووزعها عليهم، وقد رتب الأعياد والمواسم العروفة في بلادنا، وأهمها موسم النبي موسى الذي جمع له قرى بني مالك، وبني حسن، وجبل القدس والوادية، وعززهم بجبل نابلس والخليل الذين يردون متعاقبين وهو تجمع مدني فلاحي وبدوي وإسلامي ومسيحي في وقت عيد الفصح لحماية المقدسات من الأجانب الطامعين باسم الصليب.
قال المرحوم خليل السكاكيني في صحيفة الشورى، القاهرة 7 مايو(أيار) 1925م "لو لم يكن لفلسطين هذا الموسم(موسم النبي موسى) لكانت جديرة أن تخلقه، فهي في حاجة إليه اليوم كما كانت في حاجة إليه قبله."
عندما بدأ الصراع ضد الإنتداب البريطاني والإستيطان الصهيوني هبت الثورة كان إبن القدس عبدالقادر الحسيني قائدا واستشهد في قرية القسطل المقدسية والثوار من الريف والبادية المقدسية ، وثورة 1936م سميت بثورة الفلاحين الذين نفذوا العصيان المدني وانجحوا إضرابا دام ستة أشهر ، ويقولون لمن يتوجه إلى القدس أنه "مدن" أي ذاهب إلى المدينة ويعنون بذلك "القدس" دون غيرها فلو توجه أحدهم على سبيل المثال إلى مدينة يافا يقولون ذهب إلى يافا ويذكرونها بالإسم.
نبذة من بيئة مقام النبي موسى
يقع مقام النبي موسى في برية القدس المميزة ذات الأارضي الجيرية، وتكثر حول مقام النبي موسى الحجارة الجيرية القطرانية . ولذلك تستعمل العامة هذه الحجارة لإيقاد النار ويقولون: "دستور ابن عمران ناره من حجاره."
وكانت تصنع من حجر موسى الأقداح وصحاف الطعام ودوايات الحبر. وكان بيع هذه الأدوات يروج له بالزعم أن السوائل التي تشرب منها تسبع على الجسم العافية والشفاء.
وعلى امتداد العصر البيزنطي انتشرت الأيرة في برية القدس، وأشهرها دير قرنطل، ودير حجل، ودير القديس يوحنا، ودير القلط ودير مارسابا، ودير ابن عبيد.
فالعزلة والصمت العميق الذي يلف المنطقة يناسب النساك والمتعبدين والرهبان منذ الأزمنة القديمة وكان لهؤلاء الرهبان أحيانا نفوذ كبير على القبائل البدوية، فقد ذكر أن افتيموس أحد كبارالرهبان الأرمن في القرن الخامس، نصر أحد مشايخ القبلال القاطنة في البرية وجعله أسقفا على قبيلته ودعيت أبرشيته بالمخيم.
يقول المؤرخ عارف العارف:" لم تلعب مدينة من المدن القائمة على وجه البسيطة ، الدور الذي لعبته القدس في التاريخ، على الرغم من أنها مدينة لا زرع فيها ولا ضرع، وعرها أكثر من سهلها، ماؤها قليل، ليس فيها نهر ولا نبع غزير."
يقول المثل الشعبي أيضا:" ميتها لم." أي ماؤها يجمع من خارجها. فمن أين كانت تشرب القدس؟
هناك القناة الرومانية والتي رممت في العهود الإسلامية اللاحقة ، تغذيها مجموعة عيون وينابيع واقعة في (وادي العروب) و ( وادي البيادر) و (البالوع) و(ارطاس) هذه الينابيع واقعة على مقربة من الطريق التي تربط القدس بمدينة الخليل وتصب ماؤها في برك سليمان ومن هذه البرك يسيل الماء في قناة واحدة، إلى أن تصل بيت لحم، فالقدس قال جرجي زيدان:"إن الملك الطاهر برقوق هو الذي عمرها. وراحت بعدئذ تعرف بــ "قناة السبيل."
وفي عام 1926 سحب الماء من (عين فارة) وفي عام 1931 تزودت القدس بالماء من عين الفوار ، وعين القلط ثم اعتمدت على مياه راس العين الواقعة بين القدس واللد. وهذه المصادر كلها من البيئة المقدسية المحيطة.
موسم النبي موسى عام 1947 م
ومن مجلة القافلة (المنتدى سابقا) وهي مجلة فلسطينية عربية اسبوعية مصورة وفيها مخزون ثقافي وادبي وفكري كبير وعلى راي الدكتور سميح شبيب انها سابقة لزمنها وهي مجلة الاذاعة الفلسطينية (هنا القدس) وقد كتب فيها اشهر الكتاب والادباء العرب والفلسطينيين وكان رئيس تحريرها الصحافي المعروف والاديب الفلسطيني حسن مصطفى وقد اخترت من هذه المقالة من العدد الاول الصادر يوم الجمعة 4 ابريل سنة 1947 وكان موضوع العدد حول موسم النبي موسى عليه السلام وكان للاسف اخر موسم شهدته فلسطين قبل النكبة وقد ورد هذا التقرير انقله للقارئ :-
تحتفل البلاد في هذا الاسبوع بموسم النبي موسى عليه السلام احتفالا شعبيا شئنها في سائر المواسم الاخرى التي تقام في طول البلاد وعرضها منذ عهد صلاح الدين الايوبي . ويبدو النفس الشعبي جليا وواضحا في المهرجنات التي تقام ، اعلام ترف ومواكب تسير وحلقات ترقص واهازيج تملا الفضاء وو.... وكلها تدعوا الى العزة الشعبية والاحتفاظ في هذا الارث المقدس. ايها القارئ الكريم ، كل عام وانت بخير جل بنظرك واغتبط معتزا بالنفس الشعبي والاحتفالات الشعبية ولا باس ان تشترك فيها ايضا والقافلة يسرها ان تستهل سيرها في هذا الاسبوع العظيم فتشارك مواكب البلاد تسير في ركب صلاح الدين الايوبي والمواسم النبيلة التي ابتدعها .
فسر مع القافلة وان حلا لك ان ترقص او تهزج فلوح بها او تهوًي واتقي حر الشمس بها او تضايقت منها فناولها لمن في الركب .
المواسم الشعبة والرياضة
الدبكة
حلقات صغيرة ينتظم فيها جماعة يكونون دوائر ويتماسكون في الايدي يشد بعضهم ثم يدورون ويركضون ويثبون ويوقعون بارجلهم على الارض في حركات منتظمة وخطوات متئدة على نغم بعض الالحان التي يتفانون بها او بمصاحبة ناي .
وهذه الدبكة من احب الالعاب الى جمهرة الشعب بما فيها من رياضة تكسب الابدان صحة ونشاطا كما تكسبها تحملا ومناعة ، اليس فيها تحريك للارجل من ركض ووثب ، وتمرين لعضلات الكتف من ثني ومد وتمرين لحركات الايدي من رفع وخفض ، هذه هي الرياضة وقد جمعت الدبكة مهضم الحركات ، وغالبا ما يتزين بها الموسم القومي للنبي موسى عليه السلام وقد شبهناها بالرقص الرياضي التوقيعي لانها تمت اليه بصلة كبيرة .. العاب الكشافة
وهذه هي مئات من الشباب تسير تحت علم الفرق الكشفية في هذا الموكب بخطوات متئدة وصفوف منتظمة تتقدمها موسيقاها التي تعزف بالحانها الشدية وتنشد الاناشيد الوطنية بروح حماسية يقابلها الجمهور المتفرج بعاصفة من التصفيق ويقوم البعض منها بالمحافظة على النظام اثناء سير الموكب لشدة الزحام .
وتتوجه بعض الفرق الكشفية لزيارة ضريح النبي موسى عليه السلام وتنصب خيامها هناك على ربوع الجبال التي تحيط بهذا المكان المقدس وتقوم بشتى التداريب الكشفية كالاسعاف والتخاطب بالاعلام والحراسة والتمرينات البدنية وحفلات السمر التي يدعونا اليها كبار الزوار ،ولا شك هذا الموسم ( موسم الكشف ) والذي كان يستعد له كل كشاف ليقضي في رحابه اياما يلهوا ويلعب..
ركوب الخيل
ويكثر في المواسم الشعبية بعض العاب الفروسية على الخيول العربية ويتسابقون عليها في سرعة وخفة ويقومون عليها بالعاب جميلة كختطاف شيء صغير من الارض بينما الحصان مسرع في عدوه او النزول والصعود من على ظهره بدعة غريبة بينما في اقصى سرعته او الركوب دون سرج ولجام معتمدا في سباقه على خصلة من الشعر في رقبة حصانه وتعتبر هذا المواسم الدينية الشعبية موسما كبيرا لركوب الخيل ولا جدال في ان الحصان كان اول صديق للاعرابي فلا يكاد يترعرع الطفل حتى يتدرج في امتطاء صهوة الجواد ثم اذا به يلج ميادين النزال والفروسية ، اذ كانوا يقيمون لذلك المهرجانات الخاصة وقد قضت عليها المدينة الحاضرة وقلبت الكثير من اوضاعها فاصبحت تلك الميادين حلقات للمراهنات ....
سيف الترس
ويلذ للمشاهد في هذا الموكب ان يرى سيف الترس فكل اثنين منهما يتقدما احدى المواكب السارية ويقف المتبارزان بيد كل منهما سيف وترس للدفاع ويتحين كل منها الفرصة لضرب زميله بينما الاخر يتلقى الطعنات بترسه ويحاول اصابة زميله بسيفه .
والسيف احد وسائل الدفاع التي كان يستعملها الاقدمون في الذود عن اوطانهم وفي ابان الفتوحات الاسلامية وغيرها ، ولا عجب اذا راينا هذه اللعبة يتناقلها الخلف عن السلف ويتوارثها الاحفاد الى يومنا هذا ، والغريب في هذه اللعبة انها اخذت منا الى البلاد الاوروبية وسميت ( بالمبارازة بالشيش) وسن لها قانون خاص واقيمت لها البطولات العالمية .
من روح الغناء الفلسطيني بقلم حسن مصطفى
لا أراني مبالغا ان قلت بأني ممن يعتزون الاعتزاز كله بالغناء الشعبي الفلسطيني. ويجدر بهذه المناسبة أن أميز بين البلدي والشعبي فقد صار من المألوف أن ينسب ما يسمعونه من أغان متناثرة مسجلة أو غير مسجلة متأثرة بالغنم الفارسي والتركي وغيرها من الانغام الشرقية، إلى ما يسمونه بالبلدي، وهذا غير الشعبي الذي يصدر عن روح شعبية تمثل الغناء الشعبي الفلسطيني خير تمثيل وتكاد تكون الطابع لاغانيه ويبدو ذلك جليا في المواسم السنوية التي تقام في طول البلاد وعرضها. ومما يستلفت النظر ان الفلسطيني في أهازيجه يصبو دائماً إلى الفتوة أو النخوة أو الشهامة أو سمها ما شئت مستعينا في ذلك بنفس بدوى رشيق وصلابة جبلية متينة ولا عجب فالفلسطيني العربي جذوره في البادية وفروعه تطاول قمم الجبال مربوط بأصله البدوي ومعتز بفرعه الجبلي، اسمعه يهزج: الزاد يحرم والأكـل لو طاحت الخيل السهـل يا مير لو قرب الاجل من هو للروح يردهــا
ولا تحلو تلك الأغاني بصوت متفرد بل يشترط فيها أن يدوى صاحبها بصوته مع صوت الجماعة فتمتزج الأصوات في هزج تتضاءل أمامه الانغام بقدر ما تبرز فيه قيمة الوحي الحماسي. اسمع الاهزوجة التالية: يا راكبا هجن عسوف كره على البيـدا وشـوف لعين مخضبة الكفوف الخيـل علينـا ردهــا
واللطيف ان هذه الأهازيج لو سرى عليها قانون العروض لوجدت أنها من مجزؤ الرجز وهو: مستعفلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن
ولقد أجمع أهل العروض والخبيرون من أهل الذوق أن الرجز أيسر الأوزان مسايرة للسير والمشي، فكأن الفلسطيني في هذه الحالة يستعين بالرجز في أهازيجه وكأنها المارش الشعبي الذي يسير عليه، وكأن تلك الأهازيج هي أناشيده الشعبية. وقد يحلو لأحدهم ان يفلت من انسجام الجمهرة كأن تهتز مشاعره مثلاً، فيصيح بأعلى صوته (مشوبش) على حد التعبير فيقول مثلاً: لا تحسبونا خواجات ولا نبيع العطارة حنا حماة المتاريس لو صار عالدار غاره
فيهب من خلفه هبة رجل واحد ملبين هتافه بمختلف الاستحسانات. ثم يسير الموكب يردد مختلف الأهازيع وبالوزن نفسه. يا شيخنا دعنا نسير مهما كتب ربك يصير تجيك علومنا يا الأمير كسارة الجمع الكثير
والاعتزاز بالشيخ والعقيد خلق توجبه حياة الجماعة وتقتضيه الروابط الاجتماعية ولكنه في نصر الجماعات أيضاً رمز حي تجسمت فيه مثل الجماعة العليا تحيطه بالعناية وتسير معه بروح الولاء والاعتزاز. اسمعهم في أهازيجهم يقولون:
يا شيخنا لما ركب والكل يطلع عليه عدوه عمره ما كسب ينكسى وسخط الله عليه
وتبرز قيمة السيف في تلك الاهازيج حتى ليندر ان تخلو أهزوجة من كلمة سيف أو معناه، وقد أصبح من بدهياتهم في القول:
والحرب له درج درج والسيف مفتاح الفرج
وتلك طبيعة بدوية مردها فلسفة الصحراء في القول "ذل من لا سيف له ويلمس المرء روح النفرة في الأغاني الشعبية الفلسطينية حتى بات يقرن عزة النفس بالحياة وذلها بالموت
يا بو جديلة تهلهل الموت خير من الذل
بل يرى في الموت خير ستر حين يقول
الموت سترة والمذلة تعيبنا
والفلسطيني يطرب للنخوة والكرامة في غنائه قبل أن يطرب للنغم. ويستسهل في سبيل كرامته كل صعب وستبقى روحه ممثلة في غنائه أصدق تمثيل ما دامت البادية وما دام السهل سهلا وما دام الحبل حبلا، يلعلع صوته في كل ناحية: (حنـا سيـاج لهـا على طـول الزمـان ولـو أتعبـت)
علمان من اعلام الغناء الشعبي في دار الاذاعة الفلسطينية بالقدس
المطربة سناء
لا شك انك استمعت الى ذلك الصوت الجميل صوت سناء في الاغاني الشعبية وغيرها . سناء مطربة محطة القدس ، الفنانة المرهفة العاطفة ومشبوبة الحس الفنانة التي تفصح عن مشاعرها في اساليب طريفة جذابة . المطربة سناء هي اديبة قبل ان تكون فنانة فقد تلقت علومها في احدى مدارس بيروت الكبيرة وعاشقة الفن الى ان اكتشفت وزارة المعارف اللبنانية صوتها وميلها للفن وقررت ارسالها بعثة الى باريس لتلتحق بالمعهد الموسيقي الفرنسي ولكن حالت الحرب دون ذهابها وانضمت الى المعهد الموسيقي في لبنان . فنطلق صوت سناء من على امواج الاثير اول مرة من دار الاذاعة اللبنانية وكانت تغني حين ذاك مع المطرب عامر خداج المحاورات الغنائية الشعبية ، ثم تعاقد القسم العربي لدار الاذاعة الفلسطينية معها عام 1942 وشنفت أاذان المستمعين ليس بالغناء الشعبي فقط بل في الغناء الحديث . فثقافت المطربة سناء تساعدها على الاشتراك في البرامج الادبية الموسيقية الخاصة كما ان استمعنا اليها في الروايات الاسلامية والدينية والتاريخية . وستغادر المطربة سناء مع زوجها المطرب عامر خداج قريبا الى الولايات المتحدة حيث ستقوم باحياء حفلات كثيرة لابناء المهجر .
المطرب عامر خداج المطرب عامر خداج ونحن لا نريد ان نطنب في مديحه ولكن لابد انكم تاكدتم من عطف الشعب عليه واعجابه به في الاذاعات الخارجية والمباريات الطريفة التي قدمتها محطة القدس .
صوت قوي حنون طالما استمتعتم الى مذيع القدس يقدمه فأرهفتم الاسماع اليه ، وسرت نشوته المنتظرة الى القلوب ، حتى اذا انبعث حلوا رقراقا هثت الاحاسيس وتمثلت في نشرتها جنان الخلد في فراديس لبنان فاذا انتهى عشتم في ثمالاته ساعات واياما .
استمع اليه مساء كل خميس من راديو القدس في محاوراته الغنائية مع المطربة سناء ، ولا يفوتنك سماع اغنية (غرام البادية ) من الحان محمود الشريف .
أسواق القدس العتيقة
مع بزوغ فجر كل صباح تدب الحركة في أبواب القجس وطرقها وأزقتها من كل صوب وتبدأ قوافل الباعة من الفلاحين والبدو تنتشر في الأرجاء. نساء تحمل على رؤوسها الخضر والفواكه ورجال يقودون الددواب المحملة وأطفال يساعدون ويرافقون الكبار ليتدربوا ويتعلموا. ينتشرون ويتخذون مواقعهم التي اعتادوا عليها في أسواق القدس العتيقة المرصوفة والمسقوفة.
من الريف تأتي الخضر والفواكه المنوعة والحبوب والبقول ومن البادية تأتي الألبان والأجبان والزبدة والبلدية واللحوم والجلود، والصوف وفي الربيع خاصة تنشط حركة تبقيل النباتات البرية كالعكوب والهندباء والحورية، والزعتر والتي نتظرها المجتمع المقدسي.
وقد نقلت هذا المشهد الثقافي جريدة القدس طوال الفترة الماضية القريبة في صور عمرها مئة سنة ويزيد. وكان حضور القرويين فيها واضحا .
ولما لم يكن قبل قرن من الزمان طرق ووسائل نقل بين الريف والمينة، وكانوا يؤمونها مشيا على الأقدام يدخلونا محملين ويخرجون منا محملين بما يلزمهم من مختلف الحاجيات . وهناك حالة استثنائية يجدر أن ننوه إليها وهي أهمية سكة الحديد التي ربطت القدس بيافا. أنشأتها (شركة الخطوط الحديدية العثمانية ليافا – القدس) وهي شركة فرنسية أسست في باريس سنة 1889م وكانت أول محطة في الريف المقدسي بعد المحطة المركزية في حي البقعة بالقدس هي محطة بتير على بعد 8 كيلومترا من القدس. ومن هذه المحطة كانت تخرج أول رحلة متجهة إلى محطة القدس محملة بالخضر والفاكهة من قرية بتير وجوارها من القرى كقرية الولجة. (صوة محطة بتير).
وقد منحت هذه المحطة فرصة لأهالي القدس أن يصلوا إلى بتير ومحطتها الواقعة في واديها الأخضر ونانها العامرة، يجلسون تحت ظلال أشجارها ويستدمون ويتنزهون ويقضون أجمع الأوقات بين الماء والخضرة والوجه الحسن.
ضيافة في بتير: وقد كتب المروحوم الدكتور/ اسحق موسى الحسيني حول تلك الأيام، والرحلات ، الصداقات والعلاقات والذكريات وهو في الثمانينات من عمره في كتاب تعلمت من الناس تجارب من الحياة، اقتطف منها بعض السطور تحت عنوان ضيافة في بتير: وكان من عادة سكان المدن أن يقضوا الصيف أو بعضه في الريف الفلسطيني الجميل وكان الوالد رحمه الله يؤثر قرية بتير ، فيخرج إليها بزوجته وأولاده،يخالط أهل البلدة ويعقد معهم صلات وثيقة وكان من يهبط القدس لعمل من القرية يقصد بيتنا فيقضي الوالد حاجته ويكرمه. وكان من أصدقاء الوالد * المختار/مصطفى حسن والد الأديب الريفي الممتاز حسن مصطفى، صاحب (خطرات ريفية) رحمهما الله. وكنت في شبابي ازور بتير وأجد فيها متعة وانس وفي كل زيارة يأبى صديق والدي المختار/ مصطفى حسن أن اغادر القرية دون أن أبيت عنده. وانتقلت الصداقة منه إلى إبنه الكاتب الساخر حسن مصطفى . ثم فرقت بيننا الأيام فتوفي حسن وأنا في المغترب . ولحسن آثار أدبية خليقة بأن يطلع عليها الجيل الجديد. ولا أعرف كاتب ريفيا بزه حلاوة أسلوب ودقة عبارة وظرفا وسخرية.
كان الريف متنفس المدينة و المدينة موئل الريف . وكان كل منهما متمما للآخرن وحاولت السياسة في وقت من الأوقات أن تضرب المدينة بالريف فلم تفلح. ولكن المودة القديمة فترت وقطعت وشائج كان ينبغي أن تبقى وتنمى.
وتحت عنوان ذكاء سيدة يقول:- وحين صدر كتاب (مذكرات دجاجة) قرأته السيدة الفاضلة قرينة المرحوم/ حسن مصطفى. وبعد أن فرغت من قراءته بحسن فهم قالت لحسن، لا يمكن أن يكون كاتب هذه المذكرات إلا ريفيا. فكيف استطاع صاحبك الحسيني وهو المدني العريق أن يكتبها؟ وجاءني حسن ونقل إلى تعليق زوجته وسألني عن جوابي فقلت له : قل لها إنك لصادقة كل الصدق فالدجاجة وأسرتها عاشت في بيتي كما تعيش أية دجاجة وأسرتها في الريف. كان لها (غرفة) وكنت أطعمها وأسرتها بيدي وأعيش معها حياتها يوما فيوما. وما كتبته كان من واقع الحياة لا من نسج الخيال. أما هوامش الحياة وما قالت وما قيل لها فمن واقع حياتي أنا - وتأكد أن الصدق في الأدب هو أول شروط نجاحه وخلوده.
* تعريف بالشيخ / مصطفى حسن الذي كان مختارا زمن الحكم العثماني التركي وبعد الحرب ومع قدوم الإنتداب وحين بدأ الصراع وتعرض للسجن والتعذيب والنفي والإقامة الجبرية أبعد عن المخترة إلا أنه حافظ على دوره الوطني والإجتماعي والثقافي حتى وفاته أوائل الخمسينيات. وقد كتب السيد موسى أحمد حماد عوينه من بتير عنه فقال: مصطفى حسن هو الشيخ القري الذي كان يتقن اللغة العربية ويتحدثها صرفا ونحوا بأسلوب لم يبلغه علماء الأزهر ودور العلوم، وكان يتكلم الساعات الطويلة باللغة العربية المسجوعة دون أن يخل لفظا أو يضل معنا وكان شيخا معروفا عند أخيار أهل فلسطين من (الناقورة إلى النقب) ولم يسبق ان افتخر بدخوله بدون موعد على المرحوم شكري القوتلي أو الملك عبدالله أو رياض الصلح وكان يصر على أن يطرق باب المندوب السامي وجميع المسئولين في حكومة فلسطين من عرب وإنجليز ويهود وعصاه في يده، وكان قد أمضى معظم أيام عمره في سجون الإستعمار البريطاني وعندما أصر على إقامة صلاة الفجر في سجن عتليت في فلسطين، طيلة مدة الخمس سنوات التي قضاها هناك ، كان الحارس البريطاني الموتور ذو الدم الصليبي يرش الشيخ الفاضل بالماء البارد كلما ذهب للوضوء وكان رحمه الله يحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب ، وما نام في بيت أو فندق أو سجن أو مستشفى إلا وأقام الصلوات الخمس ما استطاع لذلك سبيلا، ثم فأنه كان أقوى من آزر حركة الثورة الفلسطينية وكان بيته مركزا لإلتقاء قادتها وكم أمطرت الطائرات الإنجليزية المنطقة التي تقع حوله بالقنابل وكم أقام قادة الثوار سرا في هذا البيت وعلى رأسهم القائد عبدالقادر الحسيني وكم زود الزوار بالمؤونة المطهي منها أو الناشفة . ثم فإن ذلك الشيخ الفاضل أعطاه الله من فضله غنى كي تبقى نفسه عالية ومترفعة عن السلطة وذويها سواءا العثمانية أو الإنجليزية أو الأردنيه ، وعندما رحل أهل بتير إلى شرق الأردن عام 1949 ذهب بنفسه إلى الملك عبدالله وإلى المسؤولين وجلب المؤنه بسيارات الجيش إلى اهل القضاء ليبقوا حيث هم ولا يغادروا أو يهربوا إلى شرق الأردن.
روت لي إحدى السيدات من بتير، أن جدتها التي باعت ما لديها من ثمار الفول في البزار، أرسلت لعائلتها خبرا مع العائدين إلى القرية أنها بحادة إلى كيس آخر لتبيعه وهي تنتظر وصوله في محطة القطار. أرسلت الطلبية مع الطفلة الحفيدة التي لم تجد جدتها في إنتظارها ، فما كان منها إلا أن حملت الكيس على رأسها وكان كبيرا جدا بالنسبة لحجمها حيث اختفت ولم تظهر أسفله، فبدى الكيس كأنه يسير وحده، و أخذ المارة ينحنون لينظروا إلى من يرزح تحت هذا الحمل الثقيل، ويعلقوا مندهشين.
شكل القدس سوقا تجاريا هام لإستهلاك البضائع والمصنوعات التي تستوردها من البالد الأخرى بكثرة. لذا فالحراك التجاري والإجتماعي والإقتصادي والثقافي ينبعث من تواجد القرويين والبدو في أسواق القدس ومطاعمها وحماماتها وكنائسها ومساجدها ومقاهيها ودكاكينها. لأن كل ما ينقصهم من خدمات في قراهم يجدونه في القدس.
فهم يشترون كسوة العرايس وجهازها من ذهب وفضة وخيوط وأقمشة ومنسوجات وأحذية ويؤجرون حياكة وخياطة (القنابيز) عند الخياطين.
يأكلون طعام الأسواق من كعك القدس المحبب وحمص وفلافل ومسبحة، كما يتناولون الأطعمة المدنيةالتي يصعب عليهم تحضيرها لأنها تحتاج ألى وقت و(ماكينة لحمة ، كالكفته) واللحمة على ورقة ، كذلك المشاوي (الكباب).
ويشترون الصابون المقدسي حيث كان فيها عدد كبير من المصابن، وزيت السمسم (السيرج) من معاصرها والطحينة، والحلاوة، والسكر والقهوة والشاي ، والدخان، والأرز ، البهارات ، والتوابل، والحلقوم والنوجا، والحلويات الشامية، والأدوات والأواني المنزلية النحاسية والخزفية والفخارية والخشبية.
القدس مدينة العلم تعج بالمدارس والمعاهد والمؤسسات الثقافية والنوادي والمكتبات، فيؤمها أبناء القرى طلبا للعلم والمعرفة أيام كانت القرى بلا مدارس وكانت القلة القليلة من الناس تعنى بتعليم الأبناء لأكثر من مرحلة الكتاب إذا وجد ومع هذا خرج المتعلمون والمثقفون والأدباء والشعراء والمحامون واحتلوا الوظائف والمناصب في التعليم والصحافة وكل المجالات وقد تميزت منطقة القدس بثقافة ووعي أهلها ولهم سمات وأعمال خيرة وأخلاق مميزة عن شمالها وجنوبها.
ومن النوادي والمؤسسات الثقافية القروية في الأربعينيات ، النادي الحسني ( نسبة الى عشيرة بني حسن) عام 1940 - 1941 الذي تطور إلى نادي الإتحاد القروي وضم عددا من أندية القرى المقدسية وقد ابدع المثقفون المقدسيون في المبادرة وقيادة حركة ريادية في بناء وأعمار وتطوير القرى تطوعا وترأست هذه الزمرة الواعية حركة ثقافية وتوعوية وتنموية متقدمة في ظروف الانتداب والصراعات التي غذّاها المستعمر وحرص على نشرها مثل سياسة ( فَرّق تَسُد ) وخلق النعرات مثل فلاح ومدني ومسلم ومسيحي وحسيني ونشاشيبي، ونشر الفساد بين العائلات من كل الفئات بادية وريف ومدن بالإضافة إلى مجموعة من المشاكل من فقر وجهل ومرض وانعدام الخدمات وإهمال للريف وإفقار الفلاح وإشغال الناس في السعي وراء لقمة العيش، مع نبش الحزازات والخلافات لضمان عدم وحدة الناس من اجل هدف سامي أو لتحقيق غاية وطنية، وقد اجتمعت 120 شخصية مقدسية، وتشكلت هيئة إدارية منتخبة من مجموع النوادي من الأعضاء التالية أسمائهم: 1 المحامي أمين درويش من المالحة. (مؤسس النادي الحسني) 2 المقاول السيد سعيد الكرام من المالحة. 3 السيد موسى عبدالمجيد من دير ياسين. 4 المهندس عارف النجار من لفتا. 5 السيد محمود الخطيب من عين كارم. 6 اليسد كامل عريقات من أبوديس. 7 السيد موسى عثمان العاص من بيت صفافا. 8 المحامي يحي حموده من لفتا. 9 السيد حسن مصطفى من بتير. (كان رئيس اللجنة الثقافية والأدبية) وكان هناك ممثلون عن قرى البيرة ورام الله وقالونيا وبيت حنينا وسلوان الولجة والمالحة وبتيروبيت إكسا ومن المؤازرين لنادي الإتحاد المهندس السلواني أمين شاهين وعبد الحميد وعبد المجيد شومان وسعيد درويش، والأستاذ فايز علي الغول وموسى علي الغول والدكتور محمود علي الغول ومن بيت اكسا الحاج حسن محمد الخطيب، ومصطفى خليل عبد العزيز، وحموده عيسى ، ومحمود موسى سليمان وجميل اسعود اسعد ، وعليان زايد، ومن قالونيا الشيخ احمد عبد الرحمن عبد الرحيم. إنتسب لهذا النادي فريق من نجوم الرياضة في ذلك الوقت حتى أصبح النادي الأول في فلسطين في كرة القدم بعد أن أخذ البطولة من النادي الإسلامي في يافا وبعد مباراة مع فريق النادي الدجاني العريق ، كتب الأستاذ حسن مصطفى معلقا على المباراة ( القرية تصافح المدينة ) ولنادي الاتحاد القروي نشاط ملموس في الناحية الثقافية إذ كان ينظم المحاضرات الثقافية كل أسبوعين محاضرة في مقر جمعية الشبان المسيحية في القدس وكان المحاضرون من خيرة الأدباء والكتاب في فلسطين والوطن العربي نذكر منهم المازني، والدكتور محمود عزمي والدكتور زريق والدكتور اسحق موسى الحسيني وعجاج نويهض والأستاذ أحمد سامح الخالدي وصدرت عنه مجلة اسمها (القافلة، كان رئيس تحريرها الأديب حسن مصطفى) تعبر عن آمال وتطلعات المثقفين وأهالي الريف المقدسي. وكان مقر النادي في مكتب المحامي أمين درويش رئيس نادي الإتحاد القروي شارع مأمن الله في القدس.
وهذه الورقة اليتيمة الصفحة الثالثة من مجلة القافلة الصادرة عن نادي الاتحاد القروي 1945 م بقلم رئيس التحرير وتوقيعه باسم باجس :
" ... وفي هذا ما فيه من تأخير المراسلات لا سيما والقرية في فلسطين بصورة خاصة لها من المصالح المعقدة الجدية بحيث يعطلها عدم انتظام البريد. وقد عمد أحدهم إلى تجربة طريفة، فأرسل تحريرين مسجلين، وبعد دفع 130 ملا رسم طوابع، إلى مكانين يبعدان كيلو مترا عن حدود البلدية، أرسلا بتاريخ 16- 1- 1946 م ووصلا بتاريخ ................. يتساءل القروي إن كان اتحاد البريد الدولي يتعدى حدود البلديات ليشمل القرى أو هل يعود القروي إلى (( بواسطة الحاج إدريس رحمة الله )) أو إلى طريقة الحمام الزاجل، أو أساليب المراسلة القديمة.
دبرها يا مستر وبستر 7.
دائرة الأشغال العامة هو الاسم الذي تطلقه السرايا على ( P, W.D) والنافعة هو الاسم الذي تطلقه القرى على P.W.D )) أيضا ، واللفظان شائعان وفي مدلولها مغزى واضح فالأشغال العامة خدمة وتضحية والنافعة استغلال ، الأشغال العامة ، إسفلت - والنافعة ، رش التراب. الأشغال العامة ، طريق مبلط - والنافعة ، طريق ملبط . الأشغال العامة ، طريق مزفت - والنافعة ، طريق زفت. أيها القروي قانون العشرة أيام في السنة ساعدك بهمتك أن تشق الطرق بين القرى والمدن، عشرة أيام أخرى ودحدال الأشغال العامة لا النافعة يكفل لك طريق إسفلت. باجس
وقد تحدث المرحوم عبد المجيد شومان في الثمانينيات مع الاعلامي الدكتور مازن مصطفى في لندن قائلا: " ليتنا نستطيع بعث واحياء نادي الاتحاد القروي على مستوى ما كان عليه من نشاطات وفعاليات في المنطقة الريفية المقدسية ". ومن مقالة للاستاذ احمد خليفة عام 1947 م في مجلة الاذاعة الفلسطينية " مجلة القافلة العدد 23 " بعنوان " الفلاح يكافح الجهل " اقتبس ما يلي: إن مجموعة مدارس القرى التي فتحت في لواء القدس في مدة ثماني سنوات الأخيرة 62 مدرسة وبزيادة مئة وثمانين معلما ومن هذه المدارس ما يدار على نفقة لجان المعارف المحلية وبمساعدة مالية زهيدة من ادارة المعارف وقد يخيل للقارئ ا ناهل القرى قد دفعوا دفعا لتحمل هذه النفقات الباهظة فلا يكون لهم أي فضل في دفعها ولكن الحقيقة أنهم هم فرضوها على انفسهم ويقبلون على دفعها بطيبة خاطر.
كما أن المدارس في قرى لواء القدس كانت تستوعب دخول الطالبات حتى المرحلة الإبتدائية مع الذكور. ومن السيدات المثقفات المعروفات واللواتي حرصن على تعليم بناتهن السيدة مريم حسن مصطفى من بتير زوجة المحامي امين درويش وكان لدى اثنتين منهن قوة في التعبير وكاتبنا الشعر واثنتين واصلنا التعليم بعد الهجرة في عمان حتى المرحلة الجامعية في الامريكية بيروت وجامعة دمشق، ولما كان الاجماع التاسيسي لنادي الاتحاد القروي في بيت أمين درويش في المالحة في ارض تسمى (كرم حديدون) وقد حول هذا البيت الى متحف بعد النكبة والارض التي كانت محرشة خضراء بني فيها فندق (Holly Land Inn). وعلى هامش الاجتماع التاسيسي كان هناك غذاء عمل تجلى فيه الكرم اما الحلوى فكانت من الكولاج الفاخر بالسمن والجبن البلدي والجوز والفستق الحلبي والذي تتقنه وتعده ام حيدر(مريم حسن مصطفى) وهي شخصية نسائية وطنية معروفة في لواء القدس وعشيرة بني حسن لما تتمتع بها شخصيتها من ثقافة وقوة في الحق والمنطق ومعرفة في العرف والعادة ولها مواقف وطنية مع الثورة والثوار وقيادتها ولها مواقف سجلها الكثيرون من الشخصيات المثقفة في مذكراتهم امثال الاستاذ توفيق ابو شريف والدكتور جمال الشاعر في عمان ، وذكر الكثير عن مواقفها مع اللاجئين أيام نكبة 1948. وارتبطت عائلتها بعائلة عبد الحميد شومان بعلاقة صداقة وثيقة بسبب عمل زوجها المحامي أمين درويش في إدارة البنك العربي ثم تلاه ابنه الدكتور حيدر درويش عضو مجلس الإدارة وقد حصل ان مرض المرحوم عبد الحميد شومان وعجز الأطباء عن علاجه ونصحوه ان يذهب إلى بلاد العالم سائحا وطلبا للعلاج وعاد بعد سنة كما هو فاتصل بأم حيدر طالبا العلاج فأعدت له من أعشاب الأرض الطيبة وصفتها وأخذت ترسل له أسبوعيا في قنينة زجاجية وقد حصلت المعجزة وعادت إليه صحته.
وفي حزيران صيف عام 1963م، حصل أن توفي المرحوم أحمد حلمي عبد الباقي فذهبت إلى بناته وأصهاره آل عبد الحميد شومان معزية بوفاة هذا الرجل السياسي والاقتصادي وكعادة أهل المدن كان العزاء باردا على رأيها، فاستغربت الموقف، وأخذت تعدد وتقرض الرثاء الشعبي وتندب على فلسطين وزعاماتها الوطنية بما يليق بحق الوطن والشخصيات الوطنية، وكان لم يمض على وفاة ابن أخيها حسن مصطفى سوى عامين فقط، وقد حفلت قريتها بتير آن ذاك بوفود النادبات من القرى والمخيمات يعددن مناقب الفقيد شعرا شعبيا خاصا بمستوى وقيمة الفقيد، وكان لها باعا وذراعا في استقبال هذه الوفود النسائية وبدع مأثور القول وأحسنه.
وبعد النكسة عندما قضى زوجها المحامي وهو يدافع عن ارضه في ظهور القدس الشرقية قرب شرفات جاهدا كثيرا ضد البيع والمصادرة وقاومت ام حيدر التهديدات والابتزاز والإغراءات بإدخال وحيدها (د.حيدر) الذي كان عضو مجلس ادارة البنك العربي إلى البلاد وعضو اجتماع ومؤتمر القدس لتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 م ورفضت ذلك وقد تعرضت للاذى وهي عجوز في الثمنينات حتى لقيت وجه ربها عام 1976. ولا تزال الأرض والأحراش والبيت في ظهور القدس تروي المأسي والالام والتاريخ والذكريات والجهاد وقد كان في ذلك البيت مقتنيات تراثية قيمة ومكتبة ضخمة تزخر بامهات الكتب والمجلدات وتشغل حيزا كبيرا من الطابق الأرضي للبيت لا تزال صورتها في ذهني.
ينشد أهالي لواء القدس العلاج والطباب والخدمات الصحية في مشافي القدس وعياداتها وحتى الأن ينظرون أن أي خدمة في القدس هي الأفضل والاكمل.
وقد ذكرت الدلعونة الفلسطينية هذه الابيات حول العلاج في مشافي القدس :
ركبت في الحنطور قالت يا بيَى رايح القدس اداوي عنيًى حكيم البقعة مالك عليا ادعي بالشفا لام العيونا
ركبت في الحنطور قالت يا خسارا رايح على القدس اداوي الحرارا حكيم البقعة مالك محتا را يا ادعي بالشفا لام العيونا
حتى أكفان الموتى يحرصون على شرائها من القدس وبعد نكبة 1948 كانت الشخصيات المقدسية التي هجرت من قراها كالمالحة ، وعين كارم، توصي أن تدفن في مقبرة باب الساهرة.
إنها علاقة وجدانية نفسية كعلاقة الروح بالجسد، وعلاقة الأم بأطفالها، لذا إنعكس هذا الشعور والتقدير العظيم للمدينة المقدسة في الأغاني الشعبية الإسلامية والمسيحية ، أورد نماذج منها لها معاني ودلالات سياسية ودينية واجتماعية وفيها حضور للقدس ومعالمها ومقدساتها.
قلي وين أزفك ياحلو يامزيون ع الصخرة الشريفة في فاي الزيتون
قلي وين أزفك ياالمدلل وين ع الصخرة الشريفة وبين الحرمين
ويغني المسيحيون نفس الأغنية ولكن بذكر الأماكن المقدسة المسيحية :
قلي وين ازفك يا حلو يا زين في الصلاة الشريفة وبين الهيكلين
قلي وين اكليلك يا حلو يا منيح في الصلاة الشريفة قدام المسيح
مبارك مبارك سبع باركات كما بارك المسيح عالسبع خبزات
من وسط القدس يا لبس العرايس من وسط القدس من أحلى اللبس لبسها يا فلان من أحلة اللبس من باب العامود يا عطر العرايس من باب العامود ذهب مع ياقوت لبسها يا فلان ذهب مع ياقوت
يابي فلان شورك وين يودينا من سور عكا للقدس أراضينا يابي فلان شورك وين يوصلنا من سور عكا للقدس منازلنا
كانت زعامة ومشايخ المنطقة يلتقون بالمقادسة ويتبادلون الأخبار والأحاديث والخطط لفعاليات ثورية في مقاهي القدس العتيقة. وهذه الأغنية النسائية تفخر بأهلها ومقاصدهم:
يا لابسة الجاكيت حلوة بلا جاكيت قهوة باب خا ن الزيت مقعد لاهالينا
يالابسة المنديل حلوة بلا منديل قهوة باب الخليل مقعد لاهالينا
عزل القدس وأثاره
إن التواصل والمنافع والمصالح المشتركة والمتبادلة بين الريف والمدينة لا تنتهي رغم التطور و النهضة و الإكتفاء الذاتي من الخدمات في القرى والمدن على حد سواء، إلا أن العلاقة بالقدس مختلفة ومعقدة . إن عزلها عن محيطها هو بمثابة قطع عصب الحياة فيها إنها إجراءات إجرامية ظالمة للبيئة والطبيعة مثلما هي ظالمة ومجحفة في حق الإنسان والحيوان النبات. لقد أضرت بالناس معنويا ونفسيا وحياتيا ومعاشيا ونسفت شبكة من العلاقات الوجدانية الثقافية والإجتماعية والروحية والدينية كانت القدس هي بؤرتها ومركزيتها واليوم يتحسر المسلم والمسيحي والفلاح والمدني والمجتمع المقدسي في داخلها ومحيطها على ما مضى وعلى الحاضر التعيس والمستقبل المظلم المكبل بجدار الفصل العنصري الذي لم يشهد له التاريخ مثيلا على مر الزمن .
وهذا مثل شعبي اشتهر عن القدس (ميتها لم، وعيشتها غم، وصحبتها أكتر من سنة مابتم)، والمقصود أن قدسيتها ومكانتها العالمية والروحية والثقافية وموقعها في قلب العالم كان سبب شقائها ، وما هي فيه من المحن والرزايا، تنعكس على أهلها بالشعور باليأس والتشاؤم والعبوس والحزن. وهي محط أنظار ومطامع الغاصبين على مر الزمان، لذا يضيق ذرعا من يمكث فيها طويلا. ويعد العيش في بيت المقدس صمودا وجهاد ي ظروفها الإحتلالية التي تعجز الكلمات عن وصفها.
وهذا مثل عامي آخر يقول :( إللي برضى بالقليل بيعيش ما بين القدس والخليل) بمعنى أن المعيشة في القدس ومنطقتها يعد تضحية وفداء ولا تناسب طلاب المال والغنى والرفاه.
الدلعونا تتغنى في الاقصى والقدس وتعكس روح الشعب ومدى تعلقه بالقدس والمقدسات والوطن :-
الاقصى في قلبي وداخل عيوني حبه في قلبي بهز الكون
روحي مع عمري الى مرهوني ما يقبل عنه بدل بي عيونا
واحنا شبابك يا بيت المقدس العايش برحابك عمرو ما يفلس
القدس تبكي صارلها سنين والصخرة من جنب الاقصى الحزين
بالله يايمَا لا تحرميني من موتا من اجلك يا فلسطينا
مهما اتغربنا وطالت غيبتنا مش رح ننساكم يا جماعتنا
نطلب من الله يكمل فرحتنا تحرير الاقصى وارظ السجون
بعبد لتراب الجليل عبادي واخص قدسنا وناصرة الفادي
ضروري شعبي يتبنى قيادي تقود النضال لشعب المليونة
يا طير طاير سلم عالديري عالقدس الشريفة وسلم عالطيري
وتراب الوطن سجاد حريري والمية بلسم والبعد جنونا
أبدع الشاعر تميم البرغوثي وهومن أبناء الريف المقدسي حين رسم عذابات وآلامات القدس وأهلها لوحات فنية شعرية معبرة في ديوانه (في القدس)، وخير ما أختم به هذه المقالة الأبيات التالية:-
لا تبكي عينك أيها المنسي من متن الكتاب لا تبكي عينك أيها العربي واعلم أنه في القدس من في القدس ..لكن لا أرى في القدس إلا أنت